على خط النار: بين الأمومة والصحافة في مناطق النزاع

في ساحات الحروب والنزاعات، حيث تمتزج أصداء القصف بأنين الناجين، تقف الصحفيات الأمهات في خط النار ليس فقط كناقلات للحقيقة، بل كأمهات يواجهن قرارات تتجاوز مجرد أداء الواجب المهني.

كيف يمكن لصحفية أن تحمل الكاميرا في يد وطفلها في اليد الأخرى بينما تواجه احتمالية ألا تعود أبدًا؟

نحن لا نروي فقط حكايات النساء اللواتي وثّقن النزاع الدائر في بلدانهن، بل نغوص في لحظات التردد والخوف وفي الصراع بين التزامهن الأخلاقي تجاه الحقيقة ومسؤولياتهن كأمهات.

من شوارع غزة المنكوبة إلى جنوب لبنان، ومن أزمات السودان إلى ليبيا، نقف على تفاصيل لم تُحكَ من قبل، وننقل أصوات نساء وجدن أنفسهن في قلب الحدث، وأصبحن هن الحدث ذاته.

وبين فقدان الأحبة والتهجير والانقطاع القسري عن العمل، تسرد لنا الصحفيات كيف يصبح حمل القلم أحيانًا أكثر خطورة من حمل السلاح، وكيف تتحول الصحافة إلى اختبار حقيقي للبقاء، ليس فقط على قيد الحياة، بل على قيد المهنية والإنسانية في آنٍ واحد.

 

إسراء عرعير وابتسام مهدي: شهادات من قلب الحرب في غزة

منذ 7 أكتوبر 2023، دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة منعطفًا غير مسبوق، حيث وثّقت التقارير الصحفية والمنظمات الحقوقية حجم الدمار والاستهداف المباشر للمدنيين. وفقًا لأحدث إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد قتل 48405 فلسطينيًا في قطاع غزة حتى تاريخ نشر هذا التقرير، بينهم 17881 طفلًا و12298 امرأة، فيما وثّقت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) مقتل 148 صحفيًا فلسطينيًا، بينهم 22 صحفية، ما يعكس الاستهداف الممنهج للصحافة الفلسطينية.

في هذه الحرب لم يكن الصحفيون مجرد ناقلين للأحداث بل تحولوا إلى جزء منها. ومن بين هؤلاء ننقل شهادات الصحفيتين “إسراء عرعير وابتسام مهدي” اللتين لم توثقا فحسب مشاهد الدمار والفقدان، بل عاشتاها بأشد صورها قسوة بين الأمومة والالتزام المهني وبين الفقدان والاستمرار في سرد الحقيقة.

 

ابتسام مهدي: خيرت بين أطفالي ومعداتي الصحفية

ابتسام مهدي صحفية فلسطينية وأم لطفلين لم تكن تغطيتها للحرب هذه المرة كغيرها من الحروب السابقة التي شهدتها غزة. فهذه المرة كان الخوف على أطفالها هو العنصر الذي غير معادلة العمل تمامًا. تقول:

“أول حرب أخوضها مع أطفالي، المسؤوليات التي فرضتها علينا الحرب لم تكن موجودة سابقًا. كان علينا إشعال النار لطهي الطعام، حمل المياه، التفكير المستمر في كيفية توفير الطعام لأسرتي، والخوف الدائم من الاستهداف. لم يكن الأمر مجرد تغطية صحفية، بل معركة يومية لتأمين الحد الأدنى من الحياة.”

اضطرت ابتسام في ظل الدمار والغلاء، للعمل رغم عدم قدرتها أحيانًا على الفصل بين دورها كصحفية وأم. لكن الفقدان كان أكبر محرك دفعها للاستمرار، خاصة بعد مقتل شقيقها وأكثر من 40 شخصًا من عائلتها، إضافة إلى فقدان زملاء آخرين.

الصحفية الفلسطينية ابتسام مهدي رفقة زوجها وطفليها

ابتسام تذكر أول مواجهة لها بين الواجب المهني والأمومة خلال نزوحها من خان يونس، حيث قررت البقاء لإعداد تقرير موسّع عن استهداف القطاع الرياضي، لكن ومع تصاعد القصف أمر الجيش الإسرائيلي بتهجير سكان المنطقة، وعند نقطة تفتيش، خُيّرت ابتسام بين أخذ أطفالها أو الحفاظ على أدوات عملها، فاختارت أطفالها، وخسرت كل أرشيفها الصحفي وأجهزتها الإلكترونية.

“لقد وضعني الجيش أمام خيارين: عملي أو أطفالي، ولم أحتج إلى التفكير. لكن الثمن كان ضياع أشهر من التوثيق والعمل.”

الصحفية الفلسطينية ابتسام مهدي رفقة طفليها

اليوم، تجد ابتسام نفسها عاجزة عن استكمال عملها بسبب غياب الإنترنت والكهرباء، والانشغال بتأمين أساسيات الحياة من طعام وماء. ورغم كل شيء، ترفض الصمت وتستمر في التوثيق.

 

إسراء العرعير: كنت أغطي الأحداث، وأنا الحدث في نفس الوقت

كان الداعم الأساسي في حياة الصحفية الفلسطينية إسراء العرعير هو زوجها ياسر الطويل، الذي فقدته في الأيام الأولى من الحرب، ثم فقدت شقيقيها عبدالله وضياء الدين، وتدمر منزل عائلتها بالكامل. لكنها، رغم هذا الكم من الفقد، لم تتوقف عن العمل.

“كنت أغطي الأحداث، وأنا الحدث في نفس الوقت. كنت أخرج لتصوير المجازر، وأعود لأجد منزلي قد قُصف. لم يكن هناك وقت للحزن، لأن الاستهداف لم يتوقف، وكل لحظة كانت تحمل احتمال أن نكون نحن الضحايا التاليين.”

لم يكن العمل الصحفي وحده هو التحدي، بل كانت أمومتها لابنتها الصغيرة، التي أصرت على مرافقتها حتى في أخطر اللحظات. تقول إسراء:

“في أغلب التغطيات، كانت طفلتي معي. إذا استشهدنا، نموت سويًا، لأن الفقدان كان أقسى علينا من الموت نفسه. بعد استشهاد والدها، صارت تخشى أن تفقدني أيضًا، فكنت أحتضنها بيد، وأحمل الكاميرا باليد الأخرى.”

الصحفية الفلسطينية اسراء عرعير رفقة طفلتها

مشاهد القصف والدمار كانت كفيلة بكسرها أكثر من مرة، خاصة عند تغطية المجازر بحق الأطفال. هكذا تقول اسراء! ثم تستذكر أحد أكثر المشاهد التي لا تفارقها، وهو “مشهد لمسعف يحمل ملابس أطفال ممزوجة بأشلائهم، لأن أجسادهم تبخرت تحت القصف”.

“في لحظة، تراجعت إلى الخلف، هربت، بكيت… لكنني كنت أعود دائمًا لأنقل هذه الحقائق للعالم.”

نزحت أكثر من 18 مرة، بحثًا عن مكان آمن لم تجده. حتى عندما كانت تجري مقابلات صحفية، كانت تُضطر لمواساة طفلتها في الخلفية، تطبطب عليها بيد، وتعطيها محلول الجفاف بيد أخرى، ثم تكمل العمل.

الصحفية الفلسطينية اسراء عرعير خلال تغطيتها للحرب على غزة

“كأم، لم يكن لدي خيار آخر سوى أن أكون قوية، ليس من أجلي فقط، بل من أجلها أيضًا.”

بين شهادة ابتسام مهدي وإسراء عرعير، يتجلى مشهد الصحافة النسائية في غزة خلال هذه الحرب.

ورغم خسارة المنازل، الأجهزة، الأرشيف الصحفي، وحتى أفراد العائلة، لم تتوقف الصحفيات الفلسطينيات عن التوثيق.

 

رنا جوني- لبنان: طفلي كان يرافقني عند تغطية الأحداث

منذ 8 أكتوبر 2023، تصاعدت الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان لتبلغ ذروتها في 23 سبتمبر 2024، مع قصف عنيف استهدف المدنيين في مختلف المناطق، لا سيما النبطية، المدينة الكبيرة الواقعة على بعد 12 كلم فقط من الحدود.

ووفقًا لوزارة الصحة اللبنانية، فقد أسفرت هذه الاعتداءات عن سقوط 4047 قتيلا و16638 جريحًا حتى نهاية عام 2024 بينهم 316 طفلًا و790 امرأة قتلوا، ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية التي لحقت بالمدنيين.

وسط هذه الفوضى، لم يكن الصحفيون بمنأى عن الاستهداف، حيث وثّقت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) مقتل خمسة صحفيين في لبنان منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى نهاية 2024 .

الصحفية رنا جوني، التي قررت البقاء في الميدان رغم كل التهديدات والمخاطر، لتكون شاهدة على المجازر والانتهاكات بحق المدنيين. كانت على بعد 300 متر فقط من مجزرة حاروف التي أودت بحياة 15 مدنيًا، ووثقت مشاهد الأمهات اللواتي يبحثن عن أبنائهن تحت الركام، وأشلاء عمال بلدية النبطية التي تفرقت في المكان.

الصحفية اللبنانية رنا جوني خلال تغطيتها الحرب على لبنان عام 2024

مع كل المخاطر التي واجهتها، لم تكن رنا مجرد صحفية في ساحة المعركة، بل كانت أيضًا أمًا لطفل في شهوره الأولى، وهو ما جعل مهمتها أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. كان طفلها يرافقها في الميدان، في المناطق التي غطّت فيها القصف والدمار، وفي كل مرة كانت تواجه الخطر، كانت الأمومة والصحافة تتصارعان بداخلها، لكنها كانت تحاول البقاء ثابتة لأداء عملها بحرفية رغم كل الضغوط.

“طفلي كان معي طوال الوقت، في السيارة التي كنت أتنقل بها، وفي الأماكن التي كنت أغطي فيها القصف والدمار. كنت أعلم أنني أضعه في خطر، لكنني كنت أيضًا أدرك أن دوري كصحفية هو توثيق هذه الجرائم، وأن نقل الحقيقة هو مسؤولية لا يمكنني التراجع عنها.”

رغم الانتقادات والنصائح التي تلقتها لمغادرة الميدان حفاظًا على سلامة طفلها، أصرت على الاستمرار، مدفوعة بإحساسها بالمسؤولية تجاه ما يجري. العائلة، وبالأخص زوجها، كانوا مصدر دعمها المعنوي الوحيد، لكنها وجدت شجاعتها الأكبر في طفلها نفسه.

الصحفية اللبنانية رنا جوني خلال تغطيتها الحرب على لبنان عام 2024

“الأمومة لا تعني الضعف، بل هي مصدر القوة”

تقول رنا: “الصحافة في الحرب ليست مجرد نقل للأحداث، بل هي شجاعة في مواجهة الموت من أجل نقل الحقيقة. كنت أعرف أن الأمومة تعني المسؤولية، لكنها لم تعنِ لي يومًا التراجع أو الخوف. 

بل على العكس، كانت الأمومة هي مصدر قوتي، وهي التي دفعتني للبقاء، لأنني كنت أدرك أنني أوثق هذه الحرب لأجل مستقبل طفلي وأطفال غيره.”

تجربة رنا جوني ليست مجرد قصة صحفية غطّت الحرب، بل شهادة على صراع مزدوج عاشته بين أداء الواجب المهني وحماية طفلها.

حياة حمد-السودان: كونت فهما أعمق لمعاناة النساء والأطفال في مناطق النزاع كوني أم.

اندلعت حرب السودان في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى أزمة إنسانية كارثية. وتركزت المعارك في الخرطوم وولايات دارفور، وأسفرت عن آلاف القتلى والمصابين، وتشريد الملايين.

يعكس الصراع تنافسًا سياسيًا وعسكريًا معقدًا، مع تدخلات خارجية وتأثيرات عميقة على استقرار البلاد ويجعل السودان إحدى أكثر المناطق خطرا بالنسبة للصحفيين والصحفيات.

ووسط أهوال النزاع الدائر في السودان تبرز حياة حمد حسب الرسول اليونسابي، وهي صحفية سودانية بخبرة تتجاوز 8 سنوات في مجال الإعلام، حيث تركز على التحقيقات الصحفية التي تسلط الضوء على الظواهر السلبية في المجتمع، مع اهتمام خاص بقضايا حقوق الإنسان والمرأة والأطفال والسلام. حصلت على درجة البكالوريوس في الإعلام بامتياز، وهي تواصل حاليًا دراساتها العليا في الإعلام التفاعلي بجامعة البحر الأحمر.

وبالإضافة إلى عملها كصحفية ومقدمة برامج تلفزيونية وإذاعية في هيئة إذاعة وتلفزيون البحر الأحمر، تساهم حياة أيضًا في وزارة الثقافة والإعلام، حيث تتناول قضايا مجتمعية هامة.

علاوة على ذلك، فإن حياتها المهنية ليست مقيدة فقط بالإعلام، بل تمتد لتشمل العمل التطوعي، إذ تشغل مناصب قيادية في منظمات مثل شبكة الصحفيين السودانيين ومنظمة الإعلامي المنقذ ومنظمة صحفيون من أجل الأطفال. شاركت أيضًا في العديد من الورش التدريبية المتعلقة بالإعلام في مرحلة ما بعد النزاعات والصحافة الاستقصائية.

تسرد حياة تجربتها الخاصة كأم وصحفية في منطقة نزاع، مؤكدة أن مسؤولياتها العائلية قد جعلتها أكثر تنظيمًا وأشد حرصًا على إدارة وقتها بفعالية رغم التحديات التي تواجهها في الميدان. تقول حياة:

“أحيانًا تشكل مسؤولياتي العائلية تحديًا أثناء العمل في الميدان، ولكنني أعتبرها مصدر قوة يلهمني لأداء مهامي بشكل أفضل.”

التغطية الإعلامية للأحداث في مناطق النزاع، خاصة في السودان، شكلت بالنسبة لحياة بعدًا جديدًا في حياتها. فهي تؤمن بقوة أن الإعلام يجب أن ينقل أصوات المتضررين من النزاعات، وخاصة النساء والأطفال. وكأم أصبح لديها فهم أعمق لمعاناة النساء والأطفال في مناطق النزاع، مما زاد من التزامها بإبراز قضاياهم. وتؤكد حياة أن

“التغطية الإعلامية جعلتني أكثر وعيًا بقيمة السلام وأهمية نقل أصوات المتضررين.”

حياة تحدثت معنا بشكل أعمق عن التحديات المرتبطة بكونها أم وصحفية في مقطع مصور.

 

ومن خلال تجربتها، تبرز حياة حمد كصحفية استطاعت أن تجمع بين العمل الميداني والأمومة، متحديةً صعوباتِ العمل في ظل نزاع مازال مستمرا في بلدها، ساعية دائمًا إلى نقل الحقيقة والدفاع عن حقوق الصحفيين، بينما تواصل خدمة مجتمعها المحلي.

 

ابتسام اغفير- ليبيا: وجدت نفسي ممزقة بين رغبتي في إتمام تحقيق صحفي وبين مسؤوليتي كأم

تواجه النساء في ليبيا، وفقا للأمم المتحدة، تحديات كبيرة بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، والتي تفاقمت نتيجة للنزاع المستمر والانقسامات السياسية منذ عام 2011.

ويؤثر هذا النزاع بشكل كبير على أوضاع النساء والفتيات، حيث يزيد من مستويات العنف بما في ذلك العنف القائم على النوع الاجتماعي.

ووفقًا لمؤشر المرأة والسلام والأمن الصادر عن معهد جورج تاون للمرأة والسلام والأمن، احتلت ليبيا المرتبة 122 عالميًا من أصل 177 دولة تم تصنيفها في التقرير الصادر للعام 2023-2024. يعكس هذا التصنيف الوضع المتردي الذي تعاني منه النساء في ليبيا نتيجة للصراعات المستمرة وانعدام الاستقرار.

حالها حال مناطق النزاع الأخرى يواجه الصحفيون والصحفيات في ليبيا صعوبات كثيرة خلال تأدية مهامهم الصحفية من منع وتضييق وعدم اعتراف بالبطاقة الصحفية الممنوحة لهم، وأن تمارس الصحافة في ليبيا إمرأة “أم” هو أمر أصعب وفقا للصحفية الليبية ابتسام اغفير.

تحديات مزدوجة

ابتسام تحدثت عن التحديات التي واجهتها في مسيرتها المهنية بسبب الأمومة. حيث ترى أن الصحفية تواجه صعوبات مضاعفة، خاصة عندما تبدأ رحلتها مع الأمومة في بداية مسارها المهني.

بعد إنجاب ابنتها الأولى، وجدت ابتسام صعوبة في تحقيق التوازن بين العمل الصحفي ومتطلبات الأمومة، في ظل غياب دعم مؤسسي مثل إجازات الأمومة أو حضانات مخصصة للصحفيات العاملات.

الصحفية ابتسام اغفير رفقة طفلتها

ورغم التحديات، لم تتجه ابتسام نحو الصحافة الاجتماعية أو الثقافية – كما تفعل بعض الصحفيات بعد الأمومة – بل واصلت العمل في التحقيقات الصحفية المعمقة والتقارير الميدانية. حتى خلال فترة حملها الثاني عام 2015، استمرت في التغطيات الميدانية، رغم المخاطر التي فرضتها الحرب في بنغازي آنذاك. لم تتبنَ ابتسام إستراتيجية محددة لتحقيق التوازن بين حياتها المهنية والشخصية، بل كانت تتبع حدسها وتغلب الشعور الأقوى في كل موقف، ما جعلها أحيانًا تتنازل عن دورها كأم لصالح الصحافة.

الصحفية ابتسام اغفير رفقة ابنتها

تستذكر ابتسام أحد أصعب المواقف التي مرت بها كصحفية وأم، عندما اضطرت إلى اصطحاب ابنتها ذات العامين أثناء تحقيق صحفي حول تجارة الأدوية المهربة في ليبيا. كان من الضروري زيارة مخازن الأدوية، لكن القوانين منعت اصطحاب الأطفال إلى هذه المناطق. وجدت نفسها ممزقة بين رغبتها في إتمام التحقيق وبين مسؤوليتها كأم، خاصة عندما سمعت بكاء ابنتها أثناء وجودها داخل المخزن. هذا الموقف، كما تقول، لا يزال عالقًا في ذاكرتها كواحد من أكثر اللحظات قسوة في مسيرتها.

ورغم كل هذه التحديات، لم تتخلَ ابتسام عن التغطيات الميدانية، معتبرة أن الصحافة مسؤولية وليست مجرد مهنة. بالنسبة لها، الصحافة ليست “مهنة الفنادق”، حيث يجري الصحفي مقابلات في أماكن مريحة، بل هي التزام ميداني يستلزم النزول إلى أرض الواقع ونقل الحقيقة مهما كانت الظروف.

استمعوا لشهادة ابتسام الصوتية التي تتحدث فيها عن تجربة تغطية الحرب في مدينة بنغازي بليبيا تزامنا مع حملها الثاني.

 

الخبيرة النفسية مريم البدري: الأمومة في ساحات الحرب تهدّد الصحة العقلية للصحفيات

تُوضح الأخصائية النفسية مريم البدري أن الأمهات الصحفيات في مناطق النزاع يعانين من إرهاق عاطفي غير مسبوق، حيث تتحول غريزة الأمومة إلى سيف ذي حدين:

“الخوف على حياة الأبناء يصبح هاجسًا يطغى على كل شيء، حتى على التزامهن المهني. هذه الأمهات يُجبرن على العيش في حالة تأهب دائمة، كأنهن يحملن أطفالهن على صدرهن بينما يجرين فوق حقل ألغام نفسي”.

وتشير البدري إلى أن هذا الصراع يخلق سلسلة من الاضطرابات الحادة:

– “اضطرابات النوم والكوابيس” المرتبطة بصور العنف التي يشهدنها يوميًا.

– “نوبات غضب وبكاء لا إرادية” نتيجة تراكم الضغوط وعدم القدرة على التحكم بالواقع.

– “شعور مزمن بعدم الأمان” حتى في اللحظات النادرة التي يشعرن فيها بسلام مؤقت.

وتلفت البدري إلى مفارقة مؤلمة:

“الأم الصحفية ترفض ترك طفلها خوفًا من أن تفقده إن غابَت، لكنها تعيش في رعب من أن يكون وجوده بجانبها سببًا في إيذائه. هذا التناقض يولد شعورًا بالذنب سواء قرّرت اصطحابه أو تركه، وكلا الخيارين يُغذّي الإحساس بالفشل”.

وتحذّر البدري من العواقب بعيدة المدى قائلةً:

“المشاهد الصادمة التي تعيشها هؤلاء الأمهات – مثل رؤية أطفال آخرين يُقتلون أو يُفقدون – تزرع في لاوعيهن خوفًا مرضيًا من تكرار التجربة مع أبنائهن. هذه الصدمات المتراكمة قد تتحول لاحقًا إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، أو اكتئاب سريري، أو حتى نوبات هلع تستمر لعقود”.

وتختتم البدري حديثها بتوصية عاجلة:

“لا بد من تدخلات نفسية مُخصصة لهذه الفئة، كجلسات إسعاف نفسي أولي داخل الميدان، وبرامج دعم جماعي تسمح لهن بمشاركة تجاربهن. كما يجب توفير مساحات آمنة للأطفال المرافقين، فحماية الطفولة في مناطق الحرب جزء من حماية الصحفية نفسيًا ومهنيًا”.

 

إرشادات لتعزيز المرونة النفسية للصحفيات الأمهات في مناطق النزاع

الدكتور جورج كرم – المدير التنفيذي لـ IDRAAC وأخصائي الطب النفسي للكبار يقول إن “الصحفيات الأمهات في مناطق النزاع يواجهن تحدياتٍ استثنائية تفرض عليهن تطويرأساليب مواجهة الضغوط يوميًا. المفتاح ليس البقاء على قيد الحياة فحسب، بل الحفاظ على الإنسانية وسط العاصفة.”

ويُقدِّم د. كرم مجموعة نصائح مُدمجة لتعزيز المرونة النفسية:

– المساندة المهنية أولًا: التشبث بجلسات العلاج النفسي أو مجموعات الدعم الصحفية ليس علامة ضعف، بل خط دفاع أولي ضد تراكم الصدمات. “الحديث عن الألم يمنحه حدودًا، ويمنحكِ مساحةً للتنفس.

– حماية الذهن عبر اليقظة: يمكن لتمارين التنفس أو التأمل القصيرة أن تكون “طوق نجاة” يمنع الغرق في دوامة القلق، خاصةً قبل تغطية الأحداث العنيفة.

 

– الكتابة كشريك صامت: تحويل المشاهد الصادمة إلى كلمات على الورق ليس مجرد تفريغ، بل عملية فرزٍ تسمح بفصل الذكريات عن المشاعر.

– الاتصال العائلي: جسر فوق الفوضى: حتى لو عبر اتصالٍ متقطع، سماع صوت الأطفال أو رؤية وجوههم يُذكِّر بأن الحياة لا تزال موجودة خلف ضجيج الحرب.

– إدارة الذنب بإعادة تعريف الأولويات: “لا تقسُري نفسك على الاختيار بين المهنة والأمومة. بعض الأيام تنحني فيها الكاميرا لاحتضان طفلك، وأخرى تتركينه لتحمليها نحو الخطر. هذا ليس فشلًا، بل واقعٌ فرضته الحرب”.

– المرونة بدل الكمال: تقبَّلي أن العمل الصحفي في زمن الحرب أشبه بمركبةٍ تسير على طريق وعر: قد تهتز، وقد تضطر للتوقف، لكن المهم أن تصلَ إلى المحطة التالية.

 

ويختتم د. كرم نصائحه بتأكيدٍ جوهري:

“أن تكوني أمًّا وصحفية في قلب النزاع يعني أنكِ تحملين رسالتين: نقل الحقيقة، وحماية الحياة. لا تنسي أن تعاملي نفسك بلُطف المُقاتل الذي يستحق الراحة بعد المعركة”.

 

” تم انتاج هذا التقرير بدعم من الاتحاد الأوروبي ضمن زمالة تأثير النزاعات والحروب على تغطية الصحافة والاعلام ، وهذا المحتوى لا يعكس بالضرورة وجهة نظر الاتحاد الأوروبي”.

 

WhatsApp
Telegram
Twitter
Facebook

مقالات متشابهة

المقطع الذي قيل إنه لظهور عائشة القذافي مزيف

لا دليل علمي على أن ربات البيوت يؤدين 17 وظيفة أو أن عملهن يساوي 54,000 دولار سنويًا

هذه الصورة ليست لفاطمة السليماني

لا صحة لادعاء وفاة صفية فركاش